جناية الفصل 72 من المجلة الجزائية.. ومهزلة المكلف العام..
ورقات تونسية - كتب الأستاذ كثير بوعلاق(*):
لا يختلف عاقلان أن تونس تشهد الآن فترة عصيبة وأزمة خانقة على جميع المستويات بشكل ينذر بخطر ملم لا فقط على الثورة واستحقاقاتها المعلومة بل على كيان الدولة نفسها.. وفيما يرى البعض أن ما يحصل منذ مدة من هرسلة متواصلة تطال الصحفيين والفنانين والحقوقيين ممن رفضوا آداء فروض الولاء «لجبل اللذّة» فإن البعض الآخر وأنا منهم يعتقد أن سياسة "تشليك" مؤسسات الدولة هي سياسة ممنهجة و إستراتيجية واضحة و متعمدة تهدف إلى تقويض أسس تلك المؤسسات و النيل من مصداقيتها وهدمها تدريجيا توصلا إلى إعادة صياغتها بالكلية ..
الكل يعلم ما الذي يحصل في وزارة الداخلية وكيف صار الأمن الموازى يرتع بمباركة من نائب المرشد العام المكلف بالإيالة التونسية و الكل يعلم حال المؤسسة القضائية والتي لم تتورع رئيسة نقابة القضاة عن التصريح بشأنها منذ أيام قليلة بالقول حرفيا وفي ندوة صحفية عقدت على قارعة الطريق أن « القضاء يعرف أسوأ فترة في تاريخه..".. الكل يعلم أيضا حال السياحة والبلديات والتضخم والتشغيل والجهات و القفة والتعيينات والمستويات.. ولكن لا أظن أن الكل أو حتى البعض يعلم ما الذي يحصل في مؤسسة من أهم مؤسسات الدولة وهى مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة..
حجم الخراب الذي يطال مؤسسات الدولة لابد له من آليات للرصد والمتابعة تكون مختصة ومخصصة لكل مرفق عام على حدة ولكل مؤسسة بذاتها وهو ما يصعب تناوله بصفة فردية.. غير أن الصدفة جعلتني صحبة مجموعة من الزملاء المحامين نقف على فداحة ما أقدم عليه المكلف العام بنزاعات الدولة بمناسبة قيامه بالحق الشخصي في حق وزارة الثقافة في القضية الجزائية المنشورة أمام الدائرة الجناحية بالمحكمة الإبتدائية بتونس والمتهم فيها كل من المخرج السنيمائي نصر الدين السهيلي والمصور مراد المحرزي..
إن مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة التي تم بعثها سنة 1962 هي التي تتولى تمثيل الدولة والمؤسسات العمومية أمام مختلف الهيئات القضائية وتقوم بالتالي وفق القانون المنظم لها وهو القانون عدد 13 لسنة 1988 المؤرخ في 7 مارس 1988 بالدفاع عن مصالح الدولة المادية.. الدولة تلك الهيئة الإعتبارية العامة التي تمثلنا جميعا نظريا.. والتي تموّل مؤسساتها من قبل دافعي الضرائب..
وقد راكمت تلك المؤسسة على مدى أكثر من نصف قرن خبرة لا يستهان بها جعلت من المحامين يبذلون جهدا إضافيا حين يكون أحدهم في مواجهة المكلف العام لما عرف عنه من كفاءة قانونية جيدة و معرفة بفنون التقاضي والإجراءات حفاظا على حقوق المجموعة الوطنية..
ولعل المهم في هذا الموضع هو التأكيد على كون المكلف العام بنزاعات الدولة يختص فقط بالدفاع عن المصالح المادية للدولة فهو ليس رديفا للنيابة العمومية ولا يشترك معها في ممارسة التتبعات الجزائية..
ما الذي حصـــل يا ترى؟.. السيد ممثل المكلف العام يحضر بجلسة ما عرف بمحاكمة "البيضة" بتاريخ 23 سبتمبر 2013 وهي جلسة المرافعة الأخيرة بعد أن جهز الملف للفصل ويقدم لهيئة المحكمة تقريرا في حق وزارة الثقافة (وليس في حق الوزير الذي كلف مجموعة من المحامين للقيام بالحق الشخصي).. التقرير كان وقعه بمثابة الصدمة على الجميع و كل من إطلّع عليه وضعه مباشرة و من دون تردد في قائمة ما سيصرح بــه لـ "حفّار قبره".. التقرير من 5 صفحات كاملة أهم ما ورد فيها هو مطالبته الملحّة للمحكمة المتعهدة بالتخلي عن النظر في الملف لأنه خارج عن إختصاصها الحكمي بما أن الأفعال التي أقدم عليها المتّهمان (رشق وزير التفافة ببيضة من قبل نصر الدين السهيلي وتصوير الحادثة من قبل مراد المحرزى) تمثل في جانبهما حسب المكلف العام بنزاعات الدولة جناية الفصل 72 من المجلة الجزائية ولتعميم الفائدة إليكم نص الفصل المذكور "يعاقب بالقتل مرتكب الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بالسلاح أو إثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي".. أي أن السيد المكلف العام يروم ويسعى لإصدار حكم بإعدام المتهمين شنقا حتى الموت !!..
الأمر لو إقتصر على ذلك لكان هينا على فضاعته غير أن جناب المكلف العام أخذ في تعليل طلباته المذكورة بتدوين ما يلي حرفيا : « وحيث أكد المظنون فيه أولا في تصريحاته الصحفية التي تلت واقعة إعتدائه على الوزير إنما كان في إطار حملة إرحل بما يقطع بأن عملية الإعتداء جرى الإعداد لها مسبقا وتمت بالتنسيق وبمعرفة تيار سياسي معروف لا يخفي المظنون فيه تبنيه لطروحاته الإيديولوجية «الثورجية» وعمله ميدانيا خدمة لأجندته وهي طروحات يكيفها الكثيرون بالمغالية في التطرف إن لم يكن بالعدمية وهذا التشكيل السياسي يعد وفق المراقبين العصب الرئيسي المكون لما يسمى بإعتصام الرحيل الذي يهدف إلى حل المجلس التأسيسي وإسقاط الحكومة..
وحيث ان ما أقدم عليه المظنون فيهما يندرج دون مواربة وبشكل واضح في إطار عملية منسقة لتبديل هيئة الدولة بإنتهاج مشروع إرهابي لترويع الأشخاص وبث الرعب بين السكان بقصد التأثير على سياسة الدولة.. وحيث يتحمل المظنون فيهما كامل المسؤولية المترتبة عن تعمدهما الإعتداء على امن الدولة الداخلي قصد تبديل هيئة الدولة.. وحيث ان إستعمال المنابر الإعلامية ومواقع الإتصال في إحداث اكبر قدر من تشويه الحاضر والتشكيك في المستقبل لم يعد منحصرا في كونه جزءا أصيلا من أجزاء خطة الإنقضاض على الثورة بل أصبح رأس حربة لتبديل هيئة الدولة ومؤسساتها الشرعية .»
بالطبع لن يكون التعليق على ما سبق سهلا أو ربما كان غير ذي جدوى ولعله يكون من الأفضل الشروع مباشرة في مناحة جماعية داخل خيمة عزاء على ما آلت إليه مؤسسات الدولة من موت سريرى جعلها تصبح دمية يحرك خيوطها المرشد العام لفرع تونس لتنظيم الإخوان المسلمين..
فالثابت أن السيد المكلف العام قد دخل بيت الطاعة بعد وقع تأطيره تنظيميا لدرجة انه أصبح يخط تقارير بوليسية تجمع بين الجعجعة والطحين والثابت قطعا أن السيد المكلف العام قد أطلق ذقنه وصبغ طابعا غليظا على جبينه وقصر ثيابه وإلتحق بجوقة الشرعية والتصدي للثورة المضادة التي يقودها نصر الدين السهيلي بترسانة البيض النووى..
والثابت أيضا أن المكلف العام بنزاعات الدولة متيّم بحب القوى السياسية الداعمة لإعتصام الرحيل لدرجة أننا أصبحنا نتسائل هل تمت صياغة التقرير بمقر المكلف العام أم بمقر أحد أحزاب الترويكا !!!؟..
خلاصة القول أن سياسة التعفين التي نراها اليوم هنا وهناك ومن «تالي ومن قدام»
وتنويت مؤسسات الدولة بشكل جعلها تخرج عن دورها القانوني والوطني لتصبح أداة إضافية للقمع و لضرب الحريات وخدمة الأجندات المشبوهة سوف تكون عواقبها وخيمة على تلك المؤسسات بالدرجة الأولى وستؤدي لامحالة إلى اضمحلال ثقة العامة في الدولة في مرحلة أولى وهو ما تم تقريبا وصولا إلى التمرد على تلك المؤسسات ودخول مرحلة ما بعد الدولة أو كما قال رجل الدولة ذاك.. الخلافة السادسة..
(*) الأستاذ كــــثير بوعــــلاق المحامى لدى التعقيب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.